تحدثت عن الإتصال الطباعي والإتصال الخطاطي في آخر درس لي عن صناعة الخطوط العربية. وقلت أن الإتصال الخطاطي أساسي لخطوط مثل الرقعة ولكنها أقل أهمية بالنسبة لخطوط النسخ. وحيث أن خطوط النسخ هي الأكثر شيوعاً رأيت أن أضيف خلفية تاريخية حول موضوع إتصال الحروف مع مجموعة حروف الجيم حاء خاء والتي سنسميها حروف الجيم اصطلاحاً.
وسأحاول عرض الموضوع عبر سلسة من الصور مع تعليق أسفل كل صورة. ولربما يكون من المفيد أن نبدأ بالفيديو الذي نشرته قبل أسبوع تقريباً.
لم يكن إعداد تسجيل الحلقة الثانية من سلسلة الخطوط التارخية القديمة حول المصادر والكتب سهلاً. ولربما كان أصعب ما في ذلك هو عدد المصادر التي أحببت أن أغطيها في التسجيل. فباستثناء فترة التحضير التي دامت ما يقارب الستة أشهر استغرق التسجيل والإعداد الفني ما يقارب الشهر. إلا أنه كان مع الصعوبات العديدة التي واجهتني بعض الجوانب اللطيفة وخاصة ما يتعلق بتعلم واستخدام برنامج الـ After Effects لعمل الـ Motion Graphics التي استخدمتها لأول مرة في هذا التسجيل.
ولنتفرج على التسجيل الذي حاولت أن لا أترك المشاهد ينتهي منه دون ابتسامة للنكتة الظاهرة على آخره:
المسميات
الأسماء مهمة. وحينما نناقش موضوعاً مثل موضوع الخطوط التاريخية تأتي قضية أسماء هذه الخطوط كموضوع جدلٍ في أغلب الأحيان. وقد كتبت سابقاً بعض المقالات عن الخط المدني الحجازي فجاءني من القراء من له رأي مخالف بخصوص استعمالي للمسميات في مقالاتي. وهذا طبيعي وأنا أتفهمه. وأنا في البداية لا أدعي بأنني الخبير المتمرس في تصنيف الخطوط العربية أو تصنيف أي شئ آخر بالمناسبة، كما أن المتخصصين الذين أتحدث عنهم في هذا الإستعراض هم أنفسهم لا يتفقون على مسميات الخطوط التاريخية التي يتحدثون عنها. والمشاهد للتسجيل سيلاحظ أنني أستخدم مسميات معروفة كالمدني الحجازي والكوفي المصحفي والكوفي المشرقي، ومسميات أخرى غير معروفة كالمشق الأموي. ولربما يكون هذا المسمى الأخير من ابتكاري إلا أنه مبنى على ما يذكره بعض الباحثين الذين نستعرضهم في هذه المناسبة. وهكذا نرى أن المسميات تتعدد ولكن المعنى في النهاية واحد.
المصادر
وفي ما يلي الروابط الى المصادر المذكورة في التسجيل ومنها ما يمكن تحميله مباشرة من الرابط. أما المصادر التي لا يوجد لها نسخ على الإنترنت فقد وضعت الروابط الى المواقع التي يمكن الحصول على تلك المصادر منها.
طبعاً، أكيد سيلاحظ البعض اقتصاري على المصادر العراقية في معرض المصادر العربية الحديثة. وبالرغم من اعتزازي بعراقيتي والباحثين الأجلاء من بلدي فالتعصب لها ولهم ليس من شيمتي على الإطلاق. فباستثناء كتاب ناجي زين الدين المصرف جاءت بقية المصادر العراقية الثلاث التي استعرضتها في أول نتائج البحث على الإنترنت فكانت بمثابة القطوف الدانية التي جريت بها وأنتجت منها هذا البحث. فإن كان هناك عتب، فالعتب على Google. ومن كان عنده غضب فليصب جام عضبه على Google. ومن كان يتسائل فليسأل..من؟ Google طبعاً، فأنا أسأله كل يوم أسئلة كثيرة 😉.
الملاحظات
سيلاحظ المتفرج على التسجيل بأني قد أوقفت الملاحظات. وذلك لأجل تثبيط ملاحظات العابثين العابرة وترك المجال للجادين لإبداء ملاحظاتهم وتصحيحاتهم من هنا وعلى هذه المدونة. وسأكون في غاية الإستعداد لمناقشة الأفكار البناءة والجادة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والذي بنعمته وفضله وإحسانه تتم الصالحات.
بعد أن قمنا بتوضيح الأدوات والمواد المستخدمة في رسم المصاحف الحجازية بقي لنا أن نستعرض خصائص الخط الحجازي كخطوة أخيرة في سلسلتنا عن الخط الحجازي. وسيجد بعض القراء ثقلاً في هذه المقالة لما تحويه من الخصائص الفنية التي لا تروق في الغالب إلا للمتخصصين فأرجو المعذرة ممن ليس لهم فضول في معرفة تفاصيل قد عفى عنها الدهر وأصبحت شيئاً من الماضي.
ولقد أمضيت عدداً من الأشهر خلال هذه السنة في دراسة الخط الحجازي وتعلمت بعض الحقائق اللطيفة عنه. وبالرغم من أهمية هذا الخط فيما يتعلق بجذور وأصل الخط العربي فإن المعلومات المتوفرة عنه قليلة (وخاصة بالعربية) والإهتمام به قليل (وخاصة عند العرب). ولا أدّل من ذلك إلا هذا الفلم الوثائقي الذي ظهر على قناة الجزيرة الوثائقيةمنذ فترةوهو مليء بالأخطاء التاريخية والفنية فيما يتعلق بالحرف الحجازي.
وظاهرة قلة المعرفة بالخط الحجازي لها أسباب، نذكر منها صعوبة قراءة النص لغرابة شكل الحروف في نصوص المخطوطات الحجازية عمّا يعرفه ويألفه القارئ العربي المعاصر هذا بالإضافة الى ضياع النسخ الأصلية للمخطوطات الحجازية من بين أيدي أهلها حيث آل أكثر المخطوطات الى الجامعات والمتاحف الأجنبية. وأخيراً نذكر سطوة الخطوط العربية المتأخرة – وخاصة الخطوط العثمانية كالثلث والنسخ، والفارسية كخط التعليق – على الخطوط القديمة وذلك للفارق في المستوى الجمالي والتجويد في الصنعة الذي تتمع به الخطوط المتأخرة.
وسأحاول أن أعرض خصائص الخط الحجازي من خلال الرسوم والصور التوضيحية واعتماداً في الغالب على المصادر الغير عربية. وسأجتهد بعون الله في أخذ المفيد والصحيح من تلك المصادر حيث لا بد من التعامل معها بنظرة فاحصة وناقدة لكونها تمثل نظرة غربية وأحياناً غريبة عن الثقافة العربية. ولا بد هنا من الإشارة الى موقع مميز وموسوعي أقامه بعض الباحثين للرد على الشبهات والتشويهات التي تأتي من المصادر الغربية وهو موقع Islamic Awareness.
وبهذا أكون بفضل الله قد وضحت ما توصلت إليه من خصائص الخط الحجازي من خلال دراستي له خلال هذه السنة التي أوشكت على الإنتهاء. وأرجو الله الكريم أن يوفقني في التوسع في هذا المبحث ونشره في كتاب في المستقبل بإذنه تعالى. ونحمد الله على فضله إنه لطيف لما يشاء وهو العزيز القدير. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقسم الله جلّ جلاله بالقلم كما ذكرنا. ولم يكن الرق الذي يُكتب عليه بعيداً عن قسم الله ذلك بأنه سبحانه أقسم بالكتاب المسطور في رق منشور كما ورد في سورة الطور في القرآن الكريم. والرَق هو ما كانت تكتب عليه المصاحف قبل استعمال الورق الذي جاء من الصين في القرن الثامن الميلادي الى بقية العالم بعد الفتح الإسلامي لبلدان الشرق. والرق هو جلد الأنعام الخفيف والدقيق ولذلك سمي الرق من الرقة. ويصبح الرق جاهزاً للإستخدام بعد عملية إنتاج طويلة ومضنية تجعله مادة نفيسة غالية. ولكنه بالرغم من هذا كان هو المفضل على غيره من المواد لخصائصه التي جعلته محبباً للخطاطين وصانعي الكتب المجلدة والاسفار في تلك الحقبة من التاريخ.
ويتميز الرق عن بديله ورق البردي أو ما كان يسمى القرطاس آنذاك بالمتانة لمقاومته البلي والتمزيق ولسطحه الأملس المناسب للكتابة. وهو يتيح إمكانية تصحيح الأخطاء بالكشط بل وحتى إزالة الكتابة كلها بغسل الرق بالماء الذي يذيب الحبر الذي كانوا يستعملونه. كما يتفوق الرق على القرطاس بإمكانية طيّه في صفحات تُجمع بشكل كراريس وتُخاط مع بعضها لصناعة المصاحف المجلدة في حين أن القرطاس لا يمكن طيه. ولكتابة النصوص المطولة على القرطاس كانت الصفحة منه تلصق بحافة الصفحة الأخرى لتكوين شريط طويل يلف بشكل إسطواني.
وكان تفضيل المسلمين لاستخدام الرق في كتابة المصاحف يشبه تفضيل الطوائف المحيطة في اختيار الرق كمادة لصناعة كتبهم بينما ترك المسلمون القرطاس لكتابة العقود والمراسلات. ونمت قدرة المسلمين في صناعة مصاحف الرق منذ فترة المصاحف الحجازية حتى بلغت أوجاً عظيماً في الفترة العباسية وذلك الى أن جاء الورق ليكون هو المفضل لرخص ثمنه وسهولة إنتاجه بالمقارنة مع الرق. وبالرغم من إنتشار إستخدام الورق بعد الرق في بغداد والشام ظل الرق يستخدم في المغرب العربي لكتابة المصاحف ردحاً من الزمن بعد ذلك. أما اليوم فقد زالت الحاجة الى إستخدام هذه المادة الجميلة، اللهم باستثناء إستعماله في الدفوف والطبول وآلة الربابة البدوية.
صناعة الرق
ولنستعرض عملية صناعة الرق ليتضح لنا الجهد المبذول في تحضير هذه المادة النفيسة. وأول العمليات تتمثل بتنقيع جلود الأغنام في محلول الكلس (أو الجير كما يسميه المصريون) لمدة عشرة أيام. وبعد غسل الجلود يتم إزالة الشعر من على وجه الجلد والشحم من على ظهرة بوضع الجلد على سطح محدب وكشط الجلد بسكين مقوسة. وبعد هذه العملية يوتر الجلد في إطار ويغرف عليه الماء شيئاً فشئ كما يحك بشفرة هلالية لإزالة ما تبقى من الشعر أو الشحم. وبعد أن يجف يصبح الجلد مكوناً من مادة الكولاجين في غالبها حيث يمكن إستعمالها للكتابة بعد تنعيم الوجه بمسحوق حجر الخفاف وتبييضه بالمساحيق الطباشيرية.
وبالرغم من تعقيد عملية تحضير الرق من جلود الأغنام والمعرفة الحرفية المطلوبة فإن الرق المطلوب لعمل المصاحف الحجازية كان يصنع محلياً في الغالب. ولربما لم يكن من الضروري الإستفادة من موقع مكة والمدينة التجاري لاستيراد الرق من خارج الحجاز حيث أن أهمية المصاحف بالنسبة للمسلمين الأوائل كانت بمثابة الأولوية التي دفعتهم لتجاوز نظرتهم الى المهن وكذلك تجاوز اعتمادهم على التجارة بتوفير مادة الرق من خلال تصنيعه من قبلهم مباشرة.
وتبلغ أبعاد قطعة الرق في حدود الـ100 في 90 سنتيمتراً قبل تقطيعها الى صفحات مستطيلة. وحيث أن أبعاد أغلب المصاحف الحجازية كانت تتراوح بين 40-45 سم للطول و25-28 سم للعرض فقد مكّن هذا عمل ورقتين مزدوجتين بما يعطي 8 صفحات من الجلدة الواحدة. ولمصحف مؤلف من 450 صفحة تقريباً نحتاج الى ما بين الـ 50 الى 60 رأساً من الغنم. وبالتالي نستطيع القول بأن صناعة مصحف كامل باستخدام الرق يمثل إستثماراً مالياً كان يحسب له حسابه.
الكتابة على الرق
لربما لم يتم تقهير الرق في جميع المصاحف الحجازية حيث تم كتابة النص القرآني على الرق بعد جفافه وتقطيعه مباشرة. ولكن تحمل بعض المصاحف آثار التقهير. والتقهير مصطلح يستخدمه الخطاطون حالياً لتحضير الورق للخط بمعالجة سطحه ليكون أكثر نعومة بما يتيح كتابة دقيقة. ولربما انتقلت حرفة التقهير من الرق الى الورق حيث كانت المادتين تعالجان بالسحن بمسحوق حجر الخفاف والتبييض بمعاجين الكلس لزيادة صقل وجه سطح الكتابة وتحسين تقبله للحبر.
ولربما مثلت شفافية الرق قضية بالنسبة لخطاط المصاحف الحجازية وذلك لظهور الكتابة المكتوبة على ظهر الصفحة بسبب شفافيتها. ويلاحظ أن الخطاط كان يطابق السطر الذي يكتبه فوق السطر الظاهر من خلف الصفحة ليقلل من تشويش الكتابة على الظهر للكتابة المقروءة على الوجه. ولعل عدم إلتزام الخطاط بتجميع مقاطع الكلمات وتفريقها على السطر بمسافات متوازنة نابعة أيضاً من محاولة تغطية كتابة الظهر بالكتابة فوقها على الوجه. ولربما يتسنى لنا دراسة هذه التفاصيل بشكل أكثر دقة بعد الإطلاع على المخطوطات الأصلية مباشرة.
التجليد
تشير المراجع الى أن المخطوطات القديمة كانت تصنّع بتجميع الصفحات المزدوجة في كراريس وتؤلف الكراريس بخياطتها وربطها مع بعض عند الكعب ومن ثم إحاطتها بلوحين من الخشب الذين يُكسيان بالجلد. ولربما كان هذا صحيحاً للمصاحف الحجازية المتأخرة والمصاحف الكوفية، إلا أن فحص النموذج الوحيد المتوفر لي وهو المصحف الحجازي في جامعة توبينجن تظهر بأن الكراس الواحد كان يصنع من صفحتين مزدوجتين بمعنى أن الكراس يتضمن أربعة صفحات فقط. وهذا يسهل عمل الخطاط حيث أنه يتعامل مع قطعة مستطيلة واحدة من الرق يرتب الخطاط عليها نص القرآن الكريم على صفحات متتابعة ثم يطوي القطعة عند منتصفها ليكوّن الكراس بعد الكراس والتي تجمع في النهاية بخياطة الواحد بالآخر.
ويتراوح ثخن الرق بين الـ 0,3 و 0,5 مليمتر. وبذلك تكون المصاحف سميكة جداً بالمقارنة مع المصاحف الورقية التي نتداولها اليوم، حيث أن المصحف الحجازي المجموع في مجلد واحد يبلغ سمكه ما يزيد على الـ13 سم لمصحف مؤلف من 450 صفحة.
إن تركيبة الحبر الذي استخدم في المصاحف الحجازية حسب ما يظهر لنا تتكون من خلطة نقيع حصى العفص المهشم والزاج وهذا كان ينتج حبراً أو مداداً بلون أسود مزرق. وحينما نضيف ما يقارب الـ1400 سنة الى الخلطة يصبح لون الخط الحجازي بنياً حيث يتحول لون الحبر مع مرور الزمن من الأسود الى البني.
وقد إستخدم حبر العفص لقرون خلت قبل ظهور الإسلام. ويتم إعداد هذا الحبر من حصيات العفص التي تنمو على أشجار السنديان بفعل حشرة العفص التي تضع بيوضها في نهايات أغصان الشجرة حيث ينمو ما يشبه الورم في مكان بيوض الحشرة لتعيش فيه يرقاتها. ثم وبعد تحول اليرقة العجيب الى حشرة تثقب هذه الأخيرة جدار كرة العفص لتخرج منها الحشرة المكتملة تاركة ورائها بيتها الذي يتصلب ويتحول الى حصوة كرويّة مثقوبة.
وقد كان العفص المفضل لصناعة الحبر هو العفص الحلبي. ويفضل أستعماله بعد خروج الحشرة من مكانها حيث يكون العفص غنياً بأحماض الدباغة. وقد وصف إبن باديس في الباب الثاني من كتابه “عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب” عدة وصفات للمداد أو الحبر التي تتضمن العفص. وفي العموم فإنه يتم تكسير العفص وتنقيعه بالماء العذب عدة أيام في مكان دافئ ثم يصفى الناتج الذي يكون بني اللون ويضاف إليه الزاج. والزاج هو كبريتات الحديد الذي يمكن صناعته بإضافة حامض الكبريتيك الى الحديد. وبإضافة الزاج الى ماء العفص يتحول لون السائل الى اللون الأسود المطلوب. ويضاف الصمغ العربي الى هذا المزيج لزيادة لزوجة المداد حيث يتحسن أداء المداد من حيث كمية ما يمكن حمله من المداد بالقلم وكذلك يتحسن جريان الحبر على سطح الرق الذي كانوا يكتبون عليه.
ولا يتشرب المداد في الرق سريعاً كما هو الحال في الورق الذي استخدم فيما بعد. وهذا يسهل تصحيح الأخطاء بمسح المداد إن كان لا يزال رطباً أو بحكه عن سطح الرق إذا تم جفافه. ويعمل مداد العفص على التأثير في الرق مع مرور الزمن بسبب حامضيته. وقد كان الرق يعاد إستعماله أحياناً بغسله لإزالة الكتابة وإعادة الكتابة عليه. ومن المصاحف الحجازية ما يحمل آثاراً تشير الى إستعماله عدة مرات. حيث يظهر شبح الكتابة الأصلية تحت الكتابة الجديدة بفعل أثر الحامض الموجود في المداد على سطح الرق.
وبالرغم من وجود الأحبار الكربونية في زمن كتابة المصاحف الحجازية إلا أنه يبدو أن الحبر الذي وصفناة آنفاً هو المفضل. ونرى أن المصاحف التي صنعت لاحقاً ومنذ الفترة الأموية والتي كتبت بالخط الكوفي كان الحبر المفضل لدى صانعيها هو حبر الكربون الأسود الذي لا يتغير لونه مع مرور الزمن.
المحبرة
إن كمية الحبر المحدودة التي يمكن لقلم القصب حملها تفرض على الخطاط تكرار إمداد القلم بالحبر مراراً أثناء الكتابة. ويمكننا تصور كثرة هذا التكرار في عملية كتابة نص مطوّل كنص المصحف. وهذا التكرار يستوجب سهولة إمداد القلم بالحبر ويفرض على شكل المحبرة تصميماً يكون مناسباً لإمداد القلم بالحبر بسهولة ويسر.
وقد تكون المحابر الصغيرة المحمولة باليد التي لا تكتب هي الحل الأمثل للخطاط. حيث يمكن تزويد المحبرة بكمية محدودة من الحبر واستعمالها حتى ينفد الحبر ومن ثم إعادة ملءها. وإن بقي شئ من الحبر في المحبرة بعد الإنتهاء من جولة الخط فلن يكون سوى القليل الذي يمكن إعادته الى المحبرة أو إبقاءه ليجف في المحبرة حيث يمكن حله بإضافة كمية جديدة من الحبر في الجولة اللاحقة من الكتابة. وهذا ممكن لأن الأحبار التي كانت مستخدمة قديماً تذوب بالماء بعد جفافها.
ويتم صناعة المحابر لتحتوي على مقدار من الحبر في تجويف المحبرة الداخلي. كما يتم تشكيل حلقة حول فتحة التجويف العلوية لينفض الخطاط عليها الفائض من الحبر من على قلمه بوضع سن القلم أو كشطه على الحلقة. ومع تراكم الحبر في الحلقة تنساب الكمية التي لم تجف منه عائدة الى تجويف المحبرة تارة أخرى. ومع زيادة خبرة الخطاط يصبح لديه الحس بكمية الحبر المناسبة على سن القلم والتي يمكن عمل ضربات الخطوط الحادة الكتيمة ذوات الحافات المنتظمة باستخدام الكمية المناسبة من الحبر.
عرضنا في المقالة السابقة مخطوطة بالقلم الحجازي المائل ورأينا كيف أثبت فحص نظائر الكربون نسبة المخطوطة الى القرن الأول الهجري. وبالنظر لارتباط الخط الحجازي بكتابة المصاحف الأولى يكتسب الخط الحجازي أهمية خاصة. وسأحاول أن أبين بعض الجوانب المتعلقة بالخط الحجازي عبر سلسلة من المقالات بتوفيق الله. وبالرغم من أن التسلسل المنطقي يفرض عرض الخصائص العامة للخط إلا أني سأبدأ بما هو أسهل نسبياً وذلك بالبحث في الأدوات والمواد التي استخدمت في صناعة مصاحف الخط الحجازي المائل حيث أعود الى خصائص الخط نفسه بعد أن تكتمل لديّ صورة أوضح عن تلك الخصائص. ولنبدأ بما أقسم الله جلّ جلاله به وهو القلم.
علّم بالقلم
من بين أدوات الكتابة التي تتضمن القلم والمداد وما يكتب عليه، كان القلم هو الأظهر في كتاب الله وذلك حينما أقسم الله به في سورة القلم إذ قال سبحانه: “نون والقلم وما يسطرون”. وقد كان الرب سبحانه قد أشار وأشاد بالقلم حينما قال جلّ جلاله من قبل في أول ما نزل من القرآن: “علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعمل”. ثم يظهر لنا القلم متصدراً في مشهد مهيب حينما يمجد الله قدرته سبحانه حين يقول: “ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم”.
ومن جهة حرفة الخط فلعل أهمية القلم تكمن في أنه الأداة الأهم التي تجسد قدرات الخطاط أو الكاتب وموهبته أمام الناظرين. إذ بواسطته يقوم الخطاط بتشكيل الحبر على سطح الكتابة بأنامله بضربات متتابعات ثابتات تجتمع وتتفرق في توازن وتناغم لتصور لنا أشكالاً كتابية من حروف وكلمات تروق لنا بشكلها قبل فحواها وتداعب حس الجمال الذي يملكه أغلب الناس منّا.
ولكتابة القرآن الكريم إستخدم المسلمون الأوائل قلم القصب الذي كان شائعاً ومعروفاً بين من يكتب من أهل الحجاز في مكة والمدينة المنورة. وشيوع قلم القصب في الحجاز تابع لشيوعه في المنطقة التي تشمل الجزيرة العربية واليمن والعراق والشام وحوض النيل وجنوب أوروبا ومنذ أزل بعيد.
ويتمتع قلم القصب بمواصفات جعلته يكتسب هذا الشيوع الواسع والقديم بجدارة. فقلم القصب أولاً زهيد الثمن وهو سهل الإستخدام والإدامة. ولربما كان بري القلم وتكوين السن هو المطلوب فقط لتحضير هذه المادة الخام للخط والكتابة وسرعان ما يكتسب الخطاط مهارة بري القلم والتي تنمو عنده مع مهارة تجويد الخط الحسن ذاتها. وشكل القلم الطبيعي يؤهله للحمل بين الأصابع وتوجيهه بمقدار عالي من السيطرة لرسم اشكال الحروف. كما أن مادة قلم القصب مناسبة لحمل المداد أو الحبر وفرشه على سطح الكتابة بسن القلم.
ويتم قطع القلم بمقدار الشبر من قصب البوص الذي ينمو بكثرة على شواطئ المسطحات المائية. وتدعي شيلا بلير في كتابها الخط الإسلامي بأن أفضل أنواع القصب ينمو في أهوار العراق والمستنقعات في مصر حيث تكون أليافها مستقيمة وصلابتها تقيها بلي السن. ويدرج أبو حيان التوحيدي الذي عاش أغلب عمره في القرن الرابع الهجري في “رسالة في علم الكتابة” أربعة خطوات لإعداد القلم للكتابة وهي الفتح والنحت والشق والقط.
ويتم قط القلم بشفرة حادة لتكوين السن المناسبة للخط. ويملي نمط الخط وطرازه شكل سن القلم حيث يمكن تشكيل سن عريضة أو دقيقة للقلم. وكان أغلب خطاطي الأقوام المحيطة بالحجاز يشكلون أقلامهم بالسن العريض والذين من بينهم خطاطوا اللغات الإغريقية والرومانية والبهلوية والحبشية والعبرية، بينما تميزت اللغة السريانية المنتشرة حول الحجاز وخلاله باستخدام السن المدور كالذي يستخدم في الخط العربي المغربي الذي جاء لاحقاً. ومهما كانت حاجة الخطاط الى شكل السن المطلوب فإن قلم القصب أظهر مطاوعة واستجاب بسهولة الى طرق تشكيله بأشكال عديدة.
ولرسم الخط الحجازي قط المسلمون أقلامهم بالسن العريض المستوي ودون تحريفه أو شطف السن كما صار إليه القط لاحقاً والذي ظل نوع القط المفضل لدى الخطاطين الى يومنا هذا. وقد رسمت أغلب المصاحف الحجازية بسن تصل دقتها الى المليمتر الواحد. وقد كان هذا السن يوضع على سطح الكتابة بزاوية مائلة قليلة تتراوح بين 20 و 30 درجة. ونستطيع معرفة ذلك من بدايات ضربات القلم في الخط الحجازي وكذلك من الفرق بين ثخن مقاطع الحروف العمودية بالمقارنة مع المقاطع الأفقية وطبيعة تدرج الثخن في المقاطع المنحنية من الحروف. وتعد قطة قلم الخط الحجازي دقيقة بالمقارنة مع أقلام الخطوط اللاحقة وخاصة الخط الكوفي الذي نشأ مع أيام الخط الحجازي المتأخرة. وقد دعت الحاجة الى ضم نص القرآن الكريم كاملاً في مصحف مجلد واحد لاستخدام خط دقيق وبالتالي جاء سن القلم دقيقاً لتحقيق ذلك.
ويلاحظ الذي يستخدم قلماً بسن عريضة غير مشطوفة صعوبة في توجيه الخط من اليمين الى اليسار حيث يتطلب رسم الحروف العربية بهذا النوع من الأقلام مهارة خاصة. ونجد مع مرور الزمن في بدايات العصر الأموي تحول سن القلم العريض الى التحريف والميل تدريجياً حيث أن هذا الميل في سن القلم يسهل رسم الحرف من اليمين الى اليسار ومع تطور الخط العربي من الخط الحجازي الى الخط الكوفي أخذ هذا المنحى بالإنتشار.
وعند الكتابة يضع الخطاط الحجازي سن القلم على الرق بحيث يلامس سن القلم بكامل عرضه سطح الرق ثم يسحب الخطاط القلم إما عمودياً نحو الأسفل أو أفقياً نحو اليسار أو بمقاطع دائرية لرسم الحروف والكلمات بمقاطع خطية تمثل العرض الكامل لسن القلم ويكون ثخن هذه الخطوط بقدر عرض السن أو أقل وذلك حسب نسبة زاوية السن الى إتجاة الخط. وهذه الخطوط تمثل الشكل الرئيسي للحرف أو الكلمة حيث يقوم الخطاط بعدها بملئ زوايا الحرف أو أطرافه بالحبر مستخدماً زاوية السن الداخلية كما يقوم بصقل الحافات ووصل ما تقطع من الخط مستعيناً بزاوية سن القلم كذلك. وتطلعنا الآثار المتبقية من مصاحف الخط الحجازي المائل أن هذه الضربات التجميلية الأخيرة لم تكن تستخدم في كل الحالات حيث أن هناك مصاحف مكتوبة بضربات القلم الرئيسية دون تجميل لاحق. ولربما يعود ذلك الى نقص في قدرة الخطاط أو التقيد بتحقيق هدف التدوين المحض لنص القرآن الكريم.
وعلى كل حال فإن الضربات التجميلية تشير الى رغبة الكاتب في رفع المستوى الجمالي للكتابة وإنتاج ما هو أكبر وأسمى من التدوين المحض للنص. وهذا يؤسس مبدأ الخط الذي يتميز عن الكتابة الإعتيادية في تلك الفترة بهذه التفاصيل والتي تشمل تحديداً عمل الترويس في بدايات ونهايات ضربة القلم، وضبط تدوير المقاطع الدائرية في الحروف، وتثخين الضربات وملء الزوايا.
ويبلى سن قلم القصب بعد فترة من الكتابة مما يتطلب تجديده. ومن الصعب تحديد عدد القطات خلال كتابة نص طويل كما هو الحال عند تدوين المصحف. ولكن من المؤكد أن خطاط المصاحف كان يعيد بري السن مرات عديدة أثناء التدوين وبنفس جلسة الكتابة. وبهذا تتكامل مهارة بري القلم مع مهار الخط وتصبح أساسية مما يستوجب على الخطاط إجادته. وقد نقل أبو حيان التوحيدي عن إبن مقلة أنه قال: “القط هو الخط”. وترينا أعمال فيزال سوادي من سنعافورة أن مهارة بري القلم يمكن أن تنمو لتصبح فناً قائماً بذاته وفيما يلي مجموعة من الصور من موقعه حول فن القط بالإضافة الى تسجيل يصور جمال هذه المهارة.
وقد ظل قلم القصب ملازماً للخط العربي حتى يومنا هذا في الوقت الذي تخلى عنه خطاطو اللغات الأخرى الذي ذكرنا بعضاً منها. وهذا يعود من جانب الى طبيعة الخط العربي ومن جانب آخر الى القدرات والخصائص الذاتية لقلم القصب والتي حاولت توضيحها في هذه المقالة.
أريد بمناسبة مقدم ذكرى مولد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أن أعيد نشر الخبر الذي أعلنته جامعة برمنجهام في 22 تموز-يوليو من سنة 2015 الماضية عن كشف آثاري مهم. فقد قررت الجامعة في تلك السنة إخضاع إحدى المخطوطوات الإسلامية القديمة المودعة لديها والمكتوبة بالخط الحجازي المائل الى اختبار تقدير عمر المخطوطة باستخدام نظائر الكربون. وقد أظهرت نتيجة الإختبار بأن المخطوط يعود الى ما بين سنة 568 الى 645 من التقويم العام والذي تقابله مطلع القرن الأول في التقويم الهجري. وبهذا تكون هذه المخطوطة هي الأقدم مما بقى من الأدلة المادية المكتوبة للقرآن الكريم.
وقبل أن نذكر أهمية هذا الإكتشاف أود أن أعرض صفحات المخطوطة الأربعة التي نتحدث عنها:
سنريهم آيتنا في الآفاق
ونفهم أهمية هذا المخطوط مما قاله أساتذة جامعة بيرمنجام والذي أنقله مترجماً من موقع الجامعة: “إن الفحوصات التي أجريت على صفحات مخطوطة بيرمنجهام تشير بإحتمال كبير الى أن الحيوان الذي أخذ منه جلد الرق كان حياً في حياة النبي محمد أو بعد ذلك بقليل. وهذا يعني وبمقدار كبير من التأكيد أن ما مكتوب عليها من القرآن يعود الى ما هو أقل من عقدين من الزمان بعد وفاة محمد. وهذه الأجزاء من النصوص المكتوبة هي شديدة القرب من نصوص القرآن التي تقرأ هذا اليوم بما يؤيد وجهة النظر التي تقول بأنه لم يحدث سوى تغيير بسيط أو لم يحدث أي تغيير إطلاقاً على النص الذي تم تدوينه بفترة قليلة بعد ما هو معلوم من تاريخ ظهوره”.
وهذا التصريح في الحقيقة هو إعتراف خجول بأن القرآن محفوظ بحفظ الله له. ومعلوم أن أي وثيقة بأهمية القرآن تتعرض لضعوط كبيرة تؤدي حتماً الى تحريفها عبر فترات الزمن. ولكن لهذا القرآن شأن آخر وهو اليوم يظهر بالأدلة المادية المؤكدة بأنه لم يتغير بالرغم مما هو معلوم من الهجمات عليه وعلى المتمسكين به عبر ما يقرب من الألف وأربعمائة سنة التي مضت. فسبحان الله الحفيظ العليم وصلى الله على نبيه محمد الأمين الذي جاء بالحق هدى للعالمين.
كما أحب بمناسبة المولد النبوي الشريف أن أهدي قراء المدونة ملف إليستريتور تتضمن طغراء بنص الآية 4 من سورة القلم: “وإنك لعلى خلق عظيم”. ويمكن تحميل الملف من هذا الرابط.
حرص المسلمون الاوائل على حفظ القرآن الكريم من خلال تدوينه وسارعوا بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على جمع القرآن في المصحف. وقد أولى المسلمون عبر تاريخهم إهتماماً إستثنائياً بهذا الكتاب العظيم من حيث دقة ضبط المضمون الذي تعهد الرب سبحانه بحفظه وكذلك بتجويد شكل المصحف أيضاً.
وقد كان المصحف من بين العوامل المهمة التي ساعدت على تطور الخط العربي. فقد دعت الحاجة الى جعل المصحف مقبولاً ومقروءاً من قبل مستخدميه الى تطوير الخط ليتناسب مع الأداء اللفظي الصحيح للقرآن الكريم. وبذلك تطور الخط العربي في مكوناته ليضيف الى أشكال الحروف الأساسية الحركات ورموز الضبط واللفظ.
ولم تكن الإحتياجات العملية المحرك الوحيد لتطوير المصاحف حيث أن الرغبة في تجميل القرآن المكتوب في المصاحف ماثلت الرغبة في تجويد قرائته وصوته. لذا نرى عبر تاريخ كتابة المصاحف آيات من الجمال قلما نجدها في أي كتاب آخر وخذ مثالاً لذلك ما عرضناه عن مصحف الظاهر بيبرس الثاني في مقالة سابقة.
مصحف قنصوه الغوري
وكنت قد أوردت صورة في مقالة سابقة عن بعض الأجانب وهم يعالجون مصحفاً ضخماً حيث وضعت الصورة بعنوان: “قبّلوا تراثكم الوداع” لما لاحظته في الصورة عن الطريقة التي يعالج بها هؤلاء الكنز العظيم الذي كان بين أيديهم كأنما غنموه وهم غير مصدقين. والحقيقة أن الصورة تعود لخبر عن مصحف ضخم تم صناعته قديماً لسلطان المماليك قنصوه الغوري وآل الى مقتنياتهم بطريقة أو أخرى. والمصحف كبير في أبعاد تبلغ 60 في 90 سنتيمتراً ويبلغ وزنه 52 كيلوغراماً. وهو مكتوب بخط محقق كبير وجميل كانت الصفحات الثلاث الأولى منه مذهبة وبقية الصفحات بالحبر الأسود المكتوب على ورق أسمر سميك.
وقد قامت جامعة مانشستر بتصوير المصحف وعرضه بوضوحية عالية من خلال تطبيق يمكن الوصول إليه عبر هذا الرابط. وهو عمل عظيم نشكرهم عليه. ومع أني قد إنتقدت إستحواذهم على آثارنا بما قطع إتصال الأجيال الجديدة في هذه الأمة عن تراثها الحضاري إلا أنهم بكل تأكيد أقدر منّا اليوم على نشر هذه المعرفة المفيدة والتي تتيح للعالم أجمع أن يستفيد من هذا المورد الثقافي العظيم.
ولنعرض مجموعة من الصفحات التي قمت بتحميلها من موقع جامعة مانشيستر دون أي تعليق لنترك للقارئ فرصة الإستمتاع بجمال الصفحات حسب تذوقه لها.
أما اليوم؟!
إنتهى الإبداع في تصميم وإنتاج المصحف عندنا منذ فترة طويلة. وعادت المصاحف اليوم تلبي الحاجة العملية فقط والمتمثلة بإيصال النص القرآني الى البشرية باكثر ما نستطيع من الدقة والضبط. وهذا هدف عظيم في حد ذاته ولكنه فقد الكثير مما تم بناؤه واكتسابه عبر تاريخ الأمة القرآنية. وتجمد تصميم المصحف اليوم حول قوالب ووصفات جمالية وضعت في أواخر الدولة العثمانية ولا يجرؤ أو لا يقدر أحد في هذه الأيام على تغييرها. فحركة الإبداع والمبادرة ماتت في هذه الأمة وأصبحنا نسبح في تيار الحياة لنبقى على قيد الحياة نأكل ونتكاثر دون أن نضيف الى مسارنا أي إعمار وأي تجديد.
مشروعي الجديد
إن التصدي لتحسين الطباعة العربية أمر صعب يتطلب نقلة متعددة الأبعاد تشمل الجوانب الثقافية والفنية والإقتصادية والتربوية بل وحتى السياسية. والوصول الى نتائج عملية واسعة التطبيق تتطلب جهداً قد يتعدى ما يستطيع الفرد الواحد أن يقدمه. ولكن بالنسبة لي لا أستطيع أن أترك الأمر دون محاولة. والمشكلة هي أني أرى إمكانية واسعة في التطوير ولكن الوسائل تكون عادة محدودة ومحفوفة بالعقبات. ثم أن الأمر حينما يتعلق بالمصحف الشريف فإنه يتطلب الكثير من العناية والجهد.
وقد كانت الرزمة التي نشرها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة مبعث الشرارة التي أشعلت فيّ الهمة لعمل مصحف بمواصفات جديدة. وقد حاولت الإستفادة من الخط الرقمي الذي جاء في الرزمة والذي صممه شخص إسمه أشفاق أحمد نيازي (يدلل إسمه على أنه من جنوب آسيا كالباكستان أو الهند) في تنفيذ المصحف إلا أني وجدت أن الخط يمثل النص القرآني ضمن برامج مايكروسوفت بشكل صحيح ولكن يظهر مشاكل في تمثيل النص على منصات متصفح الكروم أو السفاري.
وقد كانت رحلة إعداد المصحف التي بدأت في نهاية العام الماضي مغامرة شيقة تعلمت فيها الكثير الكثير. وكان من بين ما تعلمته هو كشط صفحات الإنترنيت لتجميع المحتوى الذي إحتاجه والمتمثل بالتفاسير ومعاني كلمات القرآن الموجودة على الإنترنيت وتقوية قدراتي في برمجة الـ#C مع تعلم لغة الـphp. إلا أن ألجانب الأكثر متعة كان تصميم صفحات الويب باستخدام برمجة الـcss3 والتي تكون مع لغة الجافاسكريبت أداة قوية في صناعة تطبيقات الإنترنيت. وسأحاول أن أعرض فصولاً من هذه المغامرة في تدوينات لاحقة بإذن الله.
كان في نيّتي كتابة تدوينة عن محمود طه منذ زمن. ولعل الرغبة في ذلك بدأت منذ رأيت أول أعماله في مدخل فندق الموفنبك في البحر الميت. كان العمل لوحة سيراميك فبها حروف عربية ونقوش بدوية والأهم من ذلك فيها ألفة معينة وكأني رأيت العمل سابقاً بل ظننت حينها أن محمود طه الموقع على اللوحة هو فنان عراقي يكون قد رأيت أعماله من قبل. ثم عرفت فيما بعد من معرض له في عمّان أنه فنان فلسطيني قد درس في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ولعل ذلك منشأ الألفة التي شعرت بها. والحمد لله الذي وفقني أخيراً لكتابة شئ عن محمود طه المبدع، والتأخر في إخراج هذه التدوينة أحسن من “ما في”.
أنت خطاط فإذن أنت (يمكن أن تكون) حروفي
سؤال لو سمحتم. هل كل عمل فيه حروف عربية يعد فن حروفي؟ أنا شخصياً أميل الآن أن أقول لا. وأعمال محمود طه مثال على هذا. فالحرف دائماً حاضر في أعمال محمود طه ولربما مرد ذلك إلى بدايته قبل دراسة الفنون الجميلة حيث كان محمود طه حسن الخط واشتغل في الخط فترة. ولكن أعماله هنا تمثل مدرسة أخرى أريد أن أسميها بمدرسة السيراميك العراقي، ملامحها الرئيسة هي مزج التعبير التجريدي مع التراث المحلي المعاصر. وطريقة استخدام محمود طه للشواخص وتمثيله للبيئة العمرانية تشابه أعمال الكثير من الفنانين العراقيين المعاصرين. ويأتي الحرف العربي مع ذلك كله من خبرة محمود الخطاطية كأداة تعبيرية تختزن موضوع اللوحة أحياناً وكأن الحروف عنوانها الذي انتقل من إطارها الخارجي الى داخل العمل نفسه.
وإضافة الى ما ذكرنا، فإن إستخدام محمود طه للحرف العربي هو أقرب الى المدرسة التاريخية للخط وتختلف كثيراً عن غيره كنجا المهداوي والحروفيين الآخرين الذين جاؤوا من بعده. ومع تمسك محمود طه بالتعبير الكلاسيكي للخط العربي فقد نقل الخط الى مستوى جمالي جديد في أعماله ولنستمتع بعرض جانباً منها.
أعمال محمود طه: غزارة في الإنتاج وإبداع في التوزيع
لا أريد أن أبدو كإبن بطوطة في تسجيل رحلاتي على هذه المدونة ولكنني تابعت ما قد بدأت به في رحلة بغداد خلال زيارتي الأخيرة الى بيروت وعدت منها الى داري بحصيلة ثلاثة كتب عن الخط والطباعة أحب أن أعرضها عليكم. وسفرياتي هذه لم تكن من باب السياحة ولكنها كانت بحكم عملي في منظمة دولية تعمل في المنطقة. وأحب أن أستفيد من فراغ الوقت خلال هذه السفرات في البحث عن غنيمة معرفية تعوض تعب السفر وجهد العمل.
وعلى امتداد شارع الحمرا وابتداءً من الجهة الغربية باتجاه الشرق على الجانب الأيمن من الشارع هناك أربعة مكتبات أمر عليها مرور النحلة التي تبحث عن الرحيق. والمكتبة الأولى هي فيرجن (ميجاستورز على ما أظن) ثم المكتبة الشرقية ثم مكتبة أنطوان ثم مكتبة ثالثة لا أعرف اسمها ومدخلها يشبه مدخل المكتبة الشرقية من حيث درجات السلم النازلة.
وقد كان هدفي في البداية هو الحصول على الدليل المصور لتصميم الخطوط العربية الذي اعده جماعة أظن أن قسم منهم من الأيوبيين. ولا يذهب خيالك بعيداً بعد ذكر ابن بطوطة الى أنه لا يزال هناك من سلالة الأيوبيين من يؤلف كتباً عن الطباعة العربية. فالأيوبيون هم الطائفة المنصورة من خريجي جامعة الـAUB المفضلون لدى مستهلكي تصاميم الخطوط العربية من أمثال لاينوتايب والبي بي سي وغيرهم وقد ذكرناهم بما يليق بهم سابقاً.
وقد تفاجأت بأن الكتاب غير متوفر في مكتبات الحمرا في بيروت بالرغم من أن الكتاب قد أطلق في ذات المدينة منذ شهر. إلا أن عدم عثوري على الكتاب لم يحبط شهيتي لشراء الكتب وخرجت من جولتي بحصيلة ثلاث كتب نفيسة.
الكتاب الأول: كتابة كلام الله (David Roxburgh, Writing the Word of God)
وأول ما سمعت بهذا العنوان كان في كتاب الخط الإسلامي لشيلا بلير الذي تحدثت عنه في هذه التدوينة. والعنوان جذاب لما يعكس من نفرة المسلمون الأوائل لإيجاد الوسيلة اللائقة بكتابة كلام الله العظيم في قرآنه. ويبدو أن الكتاب صدر مصاحباً لعرض في متحف الفنون في هيوستن. والكتاب صغير الحجم ويعرض في عجالة تطور الخط العربي من الخط الكوفي الى الخطوط اللينة كالمحقق والريحاني. وسلسلة التطور التي يعرضها هي السلسلة التقليدية على منهج البحث الغربي في الخط العربي والتي تبدأ بالخط الحجازي ومن ثم الخط الكوفي في الفترة الأموية والعباسية وحتى مدرسة بغداد حيث يتوقف عندها ولا يمضي الى ما أضافته فارس والأتراك الى الخط العربي.
كما يترك الكتاب ما ترك غيره من عدم التعرض لشرح انتقال الخط العربي من النقوش المرتبكة التي غالباً ما تعرض علينا في كتب تاريخ الخط كنقش النمارة ونقش زبد الى الخط المتوازن المتمثل في مصاحف الخط الحجازي. ولا يزال في تقديري هناك حلقة مفقودة من تاريخ تطور الخط العربي قد يصعب الحصول على نماذج منها. فمع علمي بأن المسلمين قد أتلفوا عن قصد كل ما كان قد كتب من آيات على الجلود والعظام وغيرها في وقت جمع المصاحف الأربعة المشهورة، إلا أن هناك إشارات تاريخية عديدة الى مخطوطات قبل الإسلام وفي أول أيامه لم يتح لي لحد الآن رؤية نماذج موثوقة منها.
الكتاب الثاني: سيد الحب (Nja Mahdaoui, Le Maître d’amour)
يبدو أن هذا الكتاب هدية من نجا المهداوي الى شيخ من شيوخ المتصوفة من أصحاب الطرق وهو باللغة الفرنسية وهو أمر لا يهم ضمن مجال ما نحن فيه ولكن المهم أن نجا قد كشف لي سر ضربة ريشته.
وقد اجتهدت في مقالتي السابقة “كيف تصبح نجا المهداوي” في معرفة تفصيل الأشكال الخطية التي يستخدمها لكي أحاكيها في فرشاة أدوبي إليستريتور. ومشكلتي كانت حينذاك هي أن كل ما كان معروضاً من صور أعماله فهي تغطي العمل كاملاً وتضيع فيها التفاصيل الصغيرة التي يحيك منها نجا أعماله. وهذه إحدى مميزات فن نجا المهداوي. فأعماله مهما كبرت هي في الواقع بناء متماسك مؤلف من وحدات صغيرة هي هذه الضربات الخطية التي حاولت أن أفكك سرها.
وفي هذا الكتاب يقدم نجا لي هذه التفاصيل على طبق من ذهب (حرفياً). فالكتاب مطبوع في غالبه بالأسود والذهبي والأحمر وشئ يسير من ألوان أخرى. ويتضمن الكتاب أعمالاً بأحجام متنوعة كما يقرب تفاصيل بعض الأعمال حتى لأنك ترى خشونة حافات الخطوط في ضربات الفرشاة. ولعلي أستفاد من هذه التفاصيل في أعمال الحروفية التوليدية والتي اقتصر فيها حالياً على وحدات بنائية مشتقة من أعمال الخطاط العراقي الراحل خليل الزهاوي.
الكتاب الثالث: عناصر التصميم الطباعي (Robert Bringhurst, The Elements of Typographic Style)
وقد تحدثت مراراً عن هذا الكتاب وكان ذلك من نسخة محملة من الإنترنيت. وقد طبعت الكتاب كاملاً وقرأته بضع صفحات كل يوم قبل النوم. وقد أعجبني وعزمت حينذاك أن أشتري الكتاب وقد قمت بذلك فعلاً عبر الإنترنيت ألا أن رصيد بطاقتي لم يكفي لتغطية كلفة الكتاب. وحينما وجدت الكتاب أمامي في مكتبة أنطوان أخذت النسخة الوحيدة بتغليفها النايلوني المحكم دون فتحها لأني كنت أعرف تماماً ما أريد أن أشتريه.
وفي ما يلي تسجيل لتقليب صفحات الكتاب (بعد فتح غلافه النايلوني طبعاً). وسيروق التسجيل لمن لديهم الصبر على ستة دقائق و إحدى وثلاثين ثانية لمشاهدة منظر تقليب كتاب عن الطباعة العربية. فالحب للطباعة العربية تبرر التضحية.