لم يكن في حسباني، ولكن مع بداية زيارتي لأربيل في الأسبوع الماضي بدأ معرض أربيل الدولي للكتاب. وإنني لا أفوتها فرصة، كما هو معلوم. كما إنني لا أفوت معرض كتاب دون بعض التغريدات بل لربما وتدوينة. وقد حضرت الدورة التاسعة لهذا المعرض في عام ٢٠١٦ وكتبت عنه في مدونتي (إن كان ثمة متابع يتذكر).
والمفاجئة الثانية في هذا المعرض (بعد وجوده أصلاً) هو الكم الهائل من الكتب باللغة الكردية! وحيث أنه لم يعرض في الدورة الأولى التي حضرتها سوى بعض الكتب الكردية فإن الفارق كبير جداً بين ذلك اليوم وهذا اليوم. ولا أدري كيف تم تأليف وترجمة هذا العدد من الكتب!
بروج من الكتب باللغة الكردية
أما المفاجئة الثالثة هو جودة طباعتها. فقد طبعت الكتب بمستوى الطباعة العالمي والذي لا نعهده كثيراً في الكتب العربية.
كتب جميلة وطباعة جيدة
وقد غطت الكتب شتى عناوين الثقافة العالمية ككتاب “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”. ومع أني شخصياً غير مهتم بهكذا كتاب إلا أنني وجدت من الطريف أن يترجم هذا الكتاب الى الكردية كما أنه من الطريف أن يكون موجوداً باللغة العربية.
كتاب “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة” مترجم عن الإنجليزية
وبطبيعة الحال يأخذ الكتاب الديني موقع الصدارة في الثقافة العربية. وفي هذا المجال أيضاً وجدت الغزير من الكتب المطبوع بالشكل التقليدي والشكل والحديث. وفي الصورة كتاب “لە بارەی پێغمبەر” أي “عن النبي” صلى الله عليه وسلم. وقد تعرفت على كلمة “پێغمبەر” لكثرة ما سمعتها في خطب الجمعة أيام إقامتي في أربيل. أما بقية العنوان فقد تكفل به جوجل.
كتاب “عن النبي” محمد صلى الله عليه وسلم
ومن التحف التي غنمتها من المعرض مصحف صناعة إيرانية مغلف بجلد طبيعي (على ما أظن) وفي صندوق مغلف أيضاً. والطريف أنه كسائر المصاحف في الدول العربية مكتوب بخط عثمان طه خطاط المصاحف المعروف. إلا أن صانعو المصحف تفننوا في تجليده وطباعته وهو مطبوع على ورق مزين بعروق لامعة.
مصحف مغلف بجلد طبيعي ومطبوع على ورق بعروق لامعة
وهذه مجمل غنيمتي من المعرض والتي تتضمن كالعادة بعض أدوات الخط (مع أني لست خطاطاً). أما كتاب الـ Planisphere فهو لمشروع قادم بإذن الله عن الإسطرلابات العربية الإسلامية والتي تعد من جملة موضوع الكتاب.
الحصيلة مع بعض أدوات الخط كالعادة
ولربما يستغرب شخص مثل السيد حسن الشنقيطي صاحب الخطوط المشهورة التي يستخدمها الناس اليوم في مجال الطباعة والإعلان بكثرة (كالخط على غلاف كتاب المريخ والزهرة الذي عرضناه في التدوينة السابقة) إلا أني أيضاً غنمت بعض الشيء حينما رأيت خطي جنين على غلاف الكتب التي تصدرها دار نصوص للنشر في بغداد.
خط جنين بدأ يظهر على أغلفة الكتب
ولمزيد من المعلومات هذه روابط مجلات المعرض التي أصدرتها مؤسسة مدى الراعية له:
أقسم الله جلّ جلاله بالقلم كما ذكرنا. ولم يكن الرق الذي يُكتب عليه بعيداً عن قسم الله ذلك بأنه سبحانه أقسم بالكتاب المسطور في رق منشور كما ورد في سورة الطور في القرآن الكريم. والرَق هو ما كانت تكتب عليه المصاحف قبل استعمال الورق الذي جاء من الصين في القرن الثامن الميلادي الى بقية العالم بعد الفتح الإسلامي لبلدان الشرق. والرق هو جلد الأنعام الخفيف والدقيق ولذلك سمي الرق من الرقة. ويصبح الرق جاهزاً للإستخدام بعد عملية إنتاج طويلة ومضنية تجعله مادة نفيسة غالية. ولكنه بالرغم من هذا كان هو المفضل على غيره من المواد لخصائصه التي جعلته محبباً للخطاطين وصانعي الكتب المجلدة والاسفار في تلك الحقبة من التاريخ.
ويتميز الرق عن بديله ورق البردي أو ما كان يسمى القرطاس آنذاك بالمتانة لمقاومته البلي والتمزيق ولسطحه الأملس المناسب للكتابة. وهو يتيح إمكانية تصحيح الأخطاء بالكشط بل وحتى إزالة الكتابة كلها بغسل الرق بالماء الذي يذيب الحبر الذي كانوا يستعملونه. كما يتفوق الرق على القرطاس بإمكانية طيّه في صفحات تُجمع بشكل كراريس وتُخاط مع بعضها لصناعة المصاحف المجلدة في حين أن القرطاس لا يمكن طيه. ولكتابة النصوص المطولة على القرطاس كانت الصفحة منه تلصق بحافة الصفحة الأخرى لتكوين شريط طويل يلف بشكل إسطواني.
وكان تفضيل المسلمين لاستخدام الرق في كتابة المصاحف يشبه تفضيل الطوائف المحيطة في اختيار الرق كمادة لصناعة كتبهم بينما ترك المسلمون القرطاس لكتابة العقود والمراسلات. ونمت قدرة المسلمين في صناعة مصاحف الرق منذ فترة المصاحف الحجازية حتى بلغت أوجاً عظيماً في الفترة العباسية وذلك الى أن جاء الورق ليكون هو المفضل لرخص ثمنه وسهولة إنتاجه بالمقارنة مع الرق. وبالرغم من إنتشار إستخدام الورق بعد الرق في بغداد والشام ظل الرق يستخدم في المغرب العربي لكتابة المصاحف ردحاً من الزمن بعد ذلك. أما اليوم فقد زالت الحاجة الى إستخدام هذه المادة الجميلة، اللهم باستثناء إستعماله في الدفوف والطبول وآلة الربابة البدوية.
صناعة الرق
ولنستعرض عملية صناعة الرق ليتضح لنا الجهد المبذول في تحضير هذه المادة النفيسة. وأول العمليات تتمثل بتنقيع جلود الأغنام في محلول الكلس (أو الجير كما يسميه المصريون) لمدة عشرة أيام. وبعد غسل الجلود يتم إزالة الشعر من على وجه الجلد والشحم من على ظهرة بوضع الجلد على سطح محدب وكشط الجلد بسكين مقوسة. وبعد هذه العملية يوتر الجلد في إطار ويغرف عليه الماء شيئاً فشئ كما يحك بشفرة هلالية لإزالة ما تبقى من الشعر أو الشحم. وبعد أن يجف يصبح الجلد مكوناً من مادة الكولاجين في غالبها حيث يمكن إستعمالها للكتابة بعد تنعيم الوجه بمسحوق حجر الخفاف وتبييضه بالمساحيق الطباشيرية.
وبالرغم من تعقيد عملية تحضير الرق من جلود الأغنام والمعرفة الحرفية المطلوبة فإن الرق المطلوب لعمل المصاحف الحجازية كان يصنع محلياً في الغالب. ولربما لم يكن من الضروري الإستفادة من موقع مكة والمدينة التجاري لاستيراد الرق من خارج الحجاز حيث أن أهمية المصاحف بالنسبة للمسلمين الأوائل كانت بمثابة الأولوية التي دفعتهم لتجاوز نظرتهم الى المهن وكذلك تجاوز اعتمادهم على التجارة بتوفير مادة الرق من خلال تصنيعه من قبلهم مباشرة.
وتبلغ أبعاد قطعة الرق في حدود الـ100 في 90 سنتيمتراً قبل تقطيعها الى صفحات مستطيلة. وحيث أن أبعاد أغلب المصاحف الحجازية كانت تتراوح بين 40-45 سم للطول و25-28 سم للعرض فقد مكّن هذا عمل ورقتين مزدوجتين بما يعطي 8 صفحات من الجلدة الواحدة. ولمصحف مؤلف من 450 صفحة تقريباً نحتاج الى ما بين الـ 50 الى 60 رأساً من الغنم. وبالتالي نستطيع القول بأن صناعة مصحف كامل باستخدام الرق يمثل إستثماراً مالياً كان يحسب له حسابه.
الكتابة على الرق
لربما لم يتم تقهير الرق في جميع المصاحف الحجازية حيث تم كتابة النص القرآني على الرق بعد جفافه وتقطيعه مباشرة. ولكن تحمل بعض المصاحف آثار التقهير. والتقهير مصطلح يستخدمه الخطاطون حالياً لتحضير الورق للخط بمعالجة سطحه ليكون أكثر نعومة بما يتيح كتابة دقيقة. ولربما انتقلت حرفة التقهير من الرق الى الورق حيث كانت المادتين تعالجان بالسحن بمسحوق حجر الخفاف والتبييض بمعاجين الكلس لزيادة صقل وجه سطح الكتابة وتحسين تقبله للحبر.
ولربما مثلت شفافية الرق قضية بالنسبة لخطاط المصاحف الحجازية وذلك لظهور الكتابة المكتوبة على ظهر الصفحة بسبب شفافيتها. ويلاحظ أن الخطاط كان يطابق السطر الذي يكتبه فوق السطر الظاهر من خلف الصفحة ليقلل من تشويش الكتابة على الظهر للكتابة المقروءة على الوجه. ولعل عدم إلتزام الخطاط بتجميع مقاطع الكلمات وتفريقها على السطر بمسافات متوازنة نابعة أيضاً من محاولة تغطية كتابة الظهر بالكتابة فوقها على الوجه. ولربما يتسنى لنا دراسة هذه التفاصيل بشكل أكثر دقة بعد الإطلاع على المخطوطات الأصلية مباشرة.
التجليد
تشير المراجع الى أن المخطوطات القديمة كانت تصنّع بتجميع الصفحات المزدوجة في كراريس وتؤلف الكراريس بخياطتها وربطها مع بعض عند الكعب ومن ثم إحاطتها بلوحين من الخشب الذين يُكسيان بالجلد. ولربما كان هذا صحيحاً للمصاحف الحجازية المتأخرة والمصاحف الكوفية، إلا أن فحص النموذج الوحيد المتوفر لي وهو المصحف الحجازي في جامعة توبينجن تظهر بأن الكراس الواحد كان يصنع من صفحتين مزدوجتين بمعنى أن الكراس يتضمن أربعة صفحات فقط. وهذا يسهل عمل الخطاط حيث أنه يتعامل مع قطعة مستطيلة واحدة من الرق يرتب الخطاط عليها نص القرآن الكريم على صفحات متتابعة ثم يطوي القطعة عند منتصفها ليكوّن الكراس بعد الكراس والتي تجمع في النهاية بخياطة الواحد بالآخر.
ويتراوح ثخن الرق بين الـ 0,3 و 0,5 مليمتر. وبذلك تكون المصاحف سميكة جداً بالمقارنة مع المصاحف الورقية التي نتداولها اليوم، حيث أن المصحف الحجازي المجموع في مجلد واحد يبلغ سمكه ما يزيد على الـ13 سم لمصحف مؤلف من 450 صفحة.
توافر للمسلمين كل أسباب التطور العلمي الذي مكنهم من رفد مسيرة العمران البشرية بعطاء غزير. فالقرآن في حد ذاته فتح عقول البشر وحثهم على التفكر في الخلق العظيم من حولهم من خلال دعواته: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” وأخرى من مثل: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”. فكانت هذه الآيات ومثيلاتها المحرك الذي دفع الإنسان الى ترك الأفكار الموروثة حول الخلق ودفعهم الى النظر الفاحص في الخلق في محاولة لمعرفة أفضل لحقيقته ومنشأه.
ثم تسنى للمسلمين الأسباب المادية والإدارية من حيث توفر الأموال وثبات الحكم والمؤسسات وما ورثه المسلمون من معارف وحرف الشعوب من شرق الأرض وغربها والتي من أبرزها تعلم صناعة الورق من الصينيين والعلوم يأصنافها ومن حيثما جاءت. ولعل مدينتي التي ولدت فيها، بغداد، كانت يوماً ما مركزاً علمياً عظيماً حيث أنها كانت في فترة من الزمان عاصمة تكنولوجيا صناعة الورق بحيث أصبح القياس البغدادي (50سم في 70 سم) هو القياس الأساس للورق والذي يعتمد عليه نظام الـB series حسب ما يقول الخطاطون. ودخول الورق على الكتب، كما شاع في العهد العباسي في العراق، ليس بالأمر الصغير حيث أنه أنهى إستخدام الرق (جلود الحيوان الرقيقة التي كانت المادة الرئيسية لصناعة الكتب) والبردي وذلك لسهولة صناعة الورق ورخص ثمنه بالمقارنة مع المواد الأخرى التي ذكرناها.
تحفة الأسبوع
وعلى المستوى الفني نستطيع أن نرى أن من النتائج الثانوية للإهتمام بالمصحف هو خلق حرفة وصناعة الكتب عند المسلمين. فالتقى التطور الفكري مع التطور الحرفي ليتفجر من ذلك سيلٌ غزيرٌ من الكتب الجميلة في فنون شتّى. وأحب اليوم أن أعرض نموذجاً من تلك الكتب الجميلة التي أنتجها ذلك الظرف وهو كتاب تنقيح المناظر للعالم كمال الدين حسن بن علي حسن الفارسي والذي فرغ من كتابته في رمضان من العام 708 هجري. وبغض النظر عن موضوع الكتاب فالذي يهمني إبتداءاً هو صناعة الكتاب وتحديداً الرسومات الهندسية وموضعها في النص.
ولنستعرض بعض صفحات الكتاب الذي يمكن مطالعة بقية صفحاته على صفحة باسل عادلنور على الفليكر. وسأسرد صور الصفحات دون تعليق فجمال تصميم الصفحات يعبر عن نفسه وكذلك الرسومات الدقيقة التي رسمت في مواضعها بحبر أحمر جميل وبدقة فنية عالية.
الأثر البليغ
تدين نهضتنا اليوم الى تلك الفترة التي مثلت حلقة في سلسلة توارث المعرفة البشرية والتي دفعها منهج الفكر الإسلامي المتجرد من القيود دفعة في الإتجاه الصحيح نحو إستثمار المعرفة في علوم الصناعة والتي تسمى اليوم التكنولوجيا. وورث الغرب والشرق تلك الروح العلمية ونهضوا بها بعد أن إنحرف فكرهم ومقدراتهم في العصورة الوسطى كما يسمونها. ونستطيع تعقب أثر العلوم والمعارف الإسلامية بشكل مباشر من خلال دراسة أعمال أحد أعظم مبدعي الغرب وهو ليوناردو دافنشي الذي اقترن إسمه بالفن التصويري، وخاصة الموناليزا، أكثر من إقترانه بالتطور العلمي والتكنولوجي.
وأنا شخصياً من المعجبين بقدرات ليوناردو في التخطيط ودراسة الأفكار من خلال الرسوم وتطويرها. وقد ملأ ليوناردو العديد من الدفاتر برسومات وتخطيطات دراسية وتحليلية وتصميمية شملت العمارة والآلات والأسلحة والطائرات والتشريح وغير ذلك كثير. وفي ختام هذه المقالة عن الكتاب العلمي الإسلامي أحب أن أشير ألى نقاط التأثير المحددة للكتاب والعلم الإسلامي على عمل وإبداع ليوناردو دافينشي.