أول شعور يخالجك حينما تدخل الى معهد النفط العربي في بغداد أنك انتقلت إلى خارج العراق. فإدارة هذه المؤسسة الممولة من منظمة الأوابك حرصت على أن يكون هذا المعهد مؤسسة دولية للتدريب. وقد نجحوا في ذلك. فالبناء ونظافته وصيانته وترتيبه والناس الذين يعملون فيه كل ذلك كان مميزاً عمّا ألفناه نحن العراقيين في تلك الفترة من الثمانينات. لا أدري ما حال هذه المؤسسة اليوم. وحينما قمت بالبحث عنه عبر الأنترنيت وجدت له موقعاً واكتشفت في الأثناء وصلة رائعة لتحديد المواقع الجغرافية على شئ أسمه Wikimapia. جرّبوا هذه الوصلة على موقع معهد النفط العربي.
وفي ذلك العهد الذي سبق ظهور برامج مايكروسوفت باوربوينت PowerPoint نظم المعهد دورة عن برنامج سبقه من شركة IBM أسمه ستوريبورد Storyboard. وهو كبرنامج باوربوينت يساعد في عمل المواضيع التي يمكن عرضها على شاشة الحاسبة أو تكبيرها للعرض على شاشات كبيرة. كان ذلك قبل أيام ويندوز وكان البرنامج يستخدم أطقم حروف ذاتية، أي لا تتعلق بنظام التشغيل كما هو الحال في باوربوينت. وحيث كانت أطقم الحروف هذه قابلة للتعديل قام فريق معهد النفط العربي بإعداد أطقم حروف عربية للبرنامج متفاخرين به كإنجاز ذاتي متميز.
وحينما وصل الأمر إلى إمكنية تصميم الحروف العربية سال لعابي. فانتهزت فرصة الدورة التدريبية لمعرفة طريقة إعداد الحروف النقطية (bitmap) لهذا البرنامج، وقد تفضل فنيو المعهد بكشف الأسرار. فأمضى بعدها محسوبكم لا أدري كم من الوقت منكباً على الحاسوب يصمم أطقم الحروف النقطية، فأتحفت البشرية بما يلي:
لم يتطلب التعريب معرفة فنيّة متميزة غير الحس الذي يتمتع به من يحب الحرف العربي. في حين أن أغلب التعريبات الأخرى التي عملت عليها كان يتطلب معرفية تقنيات محددة لأجل ترجمة الفكرة التصميمية الى أطقم حروف طباعية صالحة للأستخدام البشري. وقد أعجبتني النتيجة وكسائر مشاريعي الشخصية ظننت فيها قيمة تجعلها صالحة للتسويق.
لم تكن أطقم الحروف هذه هي الأختراع الوحيد الذي أنفقت عليه الساعة بعد الساعة عملاً وحلماً. لكثرة مشاريعي التي لم ترى النور صنعت لها مقابر، قد تكون هذه المدونة واحدة من هذه المقابر. ولكن لي في تسويق حروف ستوري بورد قصة طريفة. فمن بين كل الأسواق المحتملة لم أختر سوى معهد النفط العربي كزبون مناسب لمنتوجي الطازج. وحينما ذهبت أليهم بحروفي وبزهو لا يقل عن زهوهم بالحروف التي طوروها في المعهد تفاجئت بموقف عجيب. لم يقابلوا حروفي بقلة إهتمام كما فعل غيرهم ممن عرضت عليهم اختراعاتي. إنصدم المهندس الذي كان أول من عرضت عليه الحروف حيث تغييرت تعابير الترحاب على وجهه الى حالة إنجماد في التعبير بعد أن فهم ما جئت به إليهم. تركني وذهب إلى مكان آخر ليعود ومعه زمرة من موظفي المعهد ليفتحوا معي تحقيقاً عن كيفية سرقة سرهم الخطير.
ثلاث حكم نستنتجها من هذه التجربة:
ألأولى: الأناء يفيض بما ينضح. وهذه حقيقة وليست مجرد مثل. فإذا كنت حرامي فتصورك للعالم من حولك يدور حول موضوع السرقة.
الثانية: أن التسويق فن لا يقل أهمية عن فن الصناعة نفسها.
والثالثة هي في الواقع نصيحة للحرامية: لا تحاولوا بيع ما سرقتموه الى من سرقتموه منه.