تكلمنا في مقدمة هذه السلسلة عن المفاهيم الرئيسة والخاصة بالخطوط الرقمية والأدوات المطلوبة لصناعتها. ولنشرع في الخطوات العملية المطلوبة لصناعة الخطوط الرقمية. وستكون الخطوة الأولى هي ترتيب جدول المحارف والذي يتضمن أسماء المحارف وقيم اليونيكود الخاصة بكل محرف.
ومن المهم أن نتعرف على مجموعتين من المحارف في الجدول المطلوب. المجموعة الأولى هي مجموعة المحارف التي تقابل الحروف التي ترد في النصوص الرقمية والتي يقوم الحاسوب (عبر محرك التظهير) بترجمتها الى نظام ترميز اليونيكود في حالة إختلاف ترميز النص عن اليونكود. وهذه المحارف تكون ضمن نطاق اليونكود 0600 الى 06FF والخاصة بالحروف العربية ولكل اللغات التي تستخدم الخط العربي (كالفارسية والأوردية والكردية وغيرها). ويضاف الى هذا النطاق نطاقان آخران هما نطاق 0750 الى 077F ونطاق 08A0 الى 08FF (والتي تتعلق ببعض حروف اللغات التي ذكرناها وعلامات التشكيل الإضافية). والمحارف في المجموعة الأولى (0600 الى 06FF) ضرورية لا يصح ملف الخط بدونها. ولهذه المحارف قيّم ترميز محددة في جدول اليونكود المعرف لهذا النطاق. وتكون هذه المحارف نقطة الإنطلاق الى الأشكال المطلوبة للتظهير وحسب تعليمات الأوبن تايب التي سنقوم ببرمجتها لاحقاً في هذه السلسلة.
أما المجموعة الثانية فهي مجموعة التظهير والتي يسميها نظام اليونيكود: Arabic Presentation والتي تغطي مساحة اليونكود المعرفة ضمن النطاق: FB50 الى FDFF. وفي حين أن تحديد قيّم اليونكود في ملف الخط إجباري بالنسبة للمجموعة الأولى التي ذكرناها سابقاً فإن قيّم اليونيكود المعرفة لهذه المجموعة من المحارف إختيارية ويمكن الإستعاضة عنها بوسائل تعريف أخرى.
وقد يكون من الصعب بالنسبة للمبتدئ تحديد كل المحارف المطلوبة لصناعة خط ناجح ولذا سأقوم بتوضيح طريقة للإستفادة من عمل الآخرين في بناء جدول المحارف للخط الذي ستقومون به. ولتوضيح كل هذه الأمور قمت بإعداد التسجيل التالي حول إعداد جدول المحارف للخطوط العربية. ويعرض التسجيل طريقة إستخدام سكريبت بايثون يعمل في فونتلاب يساعد في بناء جدول محارف جديد للخطوط الرقمية التي تريدون صناعتها.
لم ترق لي المبادرة التي أطلقتها مؤسسة خط الهولندية حول المزاوجة التيبوغرافية كما يسمونها لأني غير مقتنع بطريقة تصميم الخطوط العربية للتوافق مع الخطوط اللاتينية. وذلك مع أني من المتأثرين بأفكار الخطوط اللاتينية ومع أني أقتبس منها أحياناً. ولكني حينما أصمم خطاً عربياً أصممه لذاته محاولاً في تصميمي أن أحقق أهدافاً وظيفية وجمالية وثقافية معينة.
وقد كنت أتابع إعلانات معهد الرواد التدريبي في الأردن الذي كان يستخدم خطاً عربياً متميزاً في إعلاناته. وبعد عملية تحري هندسية بسيطة إستطعت التعرف على إسم الخط الذي يستخدمونه والذي ظهر لي من خلال وثيقة PDF على موقعهم أن إسمه بهيج ذي سانس (لا علاقة له مع سيف بن ذي يزن). وبعد بحث بسيط على الجوجل وجدت نسخة غير أصلية على موقع fonts2u معدلة من قبل شخص أفغاني اسمه بهيج.
ولكن البحث أظهر لي أيضاً أن أصل الخط هو من تصميم لوكاس دي جروت المعروف لتصميمه خط Calibri الذي راج مع مايكروسوفت أوفيس 2007. وكان لوكاس هذا قد بدأ خط ذي ميكس (TheMix) تحت مشروع المزاوجة التيبوغرافية المشار إليه ثم قام بتطويره لاحقاً الى خط ذي سانس. ولعل نتيجة عمله كانت أكثر توفيقاً في التصاميم الأخيرة لتجانس الخط الى حد كبير من حيث نسب الحروف والوزن والإيقاع. وهو على الأقل أجمل في نظري من خطوط جي إي من تصميم مراد بطرس التي ترتفع وتنخفض وتنكمش وتنتفخ بشكل غير متناسق أحياناً. ويبدو أن عدداً من مصممي المواقع قد إنتبه الى إمكانية هذا الخط حيث قاموا باستخدامه عوضاً عن خط تاهوما الذي ضل يحتل منذ فترة طويلة مكانة مهمة في تظهير النصوص العربية على صفحات الإنترنيت.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لربما تأخرت بعض الشئ على قرائنا الأعزاء في مواضيع جديدة حول الخط والطباعة العربية. ولهم الحق باعتذار منّي فالتأخير كان بسبب الإنشغال وما كان من قلة في المواضيع. وحيث أنّي قد قضيت بفضل الله القدير العديد من إحتياجات العمل والبيت التي شغلتني فقد أصبح الآن في مقدوري إستئناف الكتابة في مواضيع تكون إن شاء الله مفيدة.
وأريد اليوم أن أستعرض سريعاً ما يدور في بالي من مواضيع والتي أسأل الله أن يوفقني الى التوسع فيها في القريب العاجل.
الموضوع الأول: دروس في تصميم الخطوط الرقمية
وهذه سلسلة من الدروس التي أقوم بتحضيرها وذلك من حصيلة ما جمعت من معلومات متوفرة على الإنترنيت مع تطبيقها في تصميم خط رقمي أطلقت عليه أسم “بانية”. وقد ترددت في استعمال الأسم الذي أطلقته على الخط حينما صممته أولاً في نهاية التسعينات من القرن الماضي لبرنامج أوتوكاد حيث كان اسمه حينذاك “كوفي حديث”. وكان الدافع لهذه التسمية في ذلك الوقت هو إنتهائي قبل ذلك من تصميم خط كوفي هندسي تقليدي حيث رأيت وقتئذ أنني يمكن ترجمة بعض خصائص ذلك الخط القديم الى خط حديث وبالتالي جاء الربط بين “كوفي” و”حديث”. ولكن اليوم وبعد أن رأيت العديد من الخطوط الهندسية التي سُميت بهذا الأسم رأيت أن أختار له اسماً أكثر خصوصية. وبعد تفرسي في الخط جاء الأسم من حبة البامياء لتشابه ضربة الخط مع ثمرة البامياء. ثم أضفت الى الطبخة عنصر الفكاهة فصار الأسم “بانية” كما يسميها بعض الناس في حيينا.
وسنبدأ الدروس بتوضيح لبعض المبادئ الأولية حيث نتدرج بعدها في الشرح في محاولة لتغطية كافة التفاصيل بقدر ما نستطيع وبتوفيق من الله.
الموضوع الثاني: الخط الكوفي القديم
هناك العديد مما يجب أن نعرفه ونتعلمه عن الخط الكوفي القديم. وقد سلب الإستعمار الذي يسيطر على الأمة العربية والإسلامية منذ ما يزيد على قرنين من الزمان تراثاً ثميناً من خلال سرقته للمخطوطات والآثار القديمة. وقد أدى هذا الفصل بين الأمة وتراثها الى جهل عندنا في العديد مما يتعلق بنشوء الخط العربي. وترى أن الكثير من المتخصصين في الخط من العرب يهمل الخط الكوفي القديم لقلة ما هو متوفر له من المعلومات عنه.
ولا يزال الخط الكوفي عرضة للسرقة من قاطعي طريق عديدين. ومن أغبى المحاولات التي مررت عليها هو محاولة هذا المتخصص الإيراني نسبة تطوير هذا الخط الى الأمة الإيرانية كما في هذا التسجيل:
ويبدو أنها محاولة متكررة بالية حيث تذكر المتخصصة شيلا بلير (التي كتبنا عنها سابقاً) بأن الصفويين قاموا بجمع الكثير من وثائق الخط الكوفي القديم في محاولة لإضفاء الشرعية على إنتسابهم الى حضرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم (راجع كتاب الخط الإسلامي لشيلا بلير في التعليق على الشكل 1.5).
وقد أكتب عن الخط الكوفي القديم عدداً من المقالات إلا أن الكوفي القديم موضوع للعديد من الأنشطة والمشاريع التي أحضر لها في الوقت الحالي.
الموضوع الثالث: توماس ميلو
تحيرت أنا في هذا الشخص. فقد قرأت له مقالات أعجبني فيما قاله فيها عن الخط العربي خاصة حينما قارنت ما قال مع كانت تكتبه المصممة نادين شاهين الذائعة الصيت والبارعة في تصميم الخطوط القبيحة. ولكن بعد التدقيق فيما يكتبه ويقوم به توماس ميلو (وهو العقل المدبر لأداة “تصميم”) وجدته مستشرقاً يشتعل في صدره غلاً لا أجد له تفسيراً إلا أن يكون هو أيضاً من الحاقدين.
ومثال على ذلك هو نظرته المستنكفة لإبراهيم متفرقة الذي قام بصناعة أول خط طباعي عربي بواسطة الحروف المعدنية المتحركة. ويصف ميلو إبراهيم متفرقة بأنه الهنغاري الخائن (لأنه تحول من المسيحية الى الإسلام) ويعتبر أعماله محاولات غير ذات تأثير كبير في حين أن الهنغاريون أنفسهم قد أكرموا إبراهيم متفرقة أو على الأقل قام بذلك هنغاري واحد منهم كما نرى على هذا الرابط. وقد قام توماس ميلو باختراع شخصية أخرى أحب الى نفسه من متفرقة وهو الأرمني أوهانيس مهندس أوغلو ونسب إليه الإبداعات والإبتكارات ولكنك حينما تبحث عن مهندس أوغلو هذا على الإنترنيت يعود بك الرابط في كل مرة الى توماس ميلو حيث لم يذكر هذه الشخصية أحد سواه.
ومع ذلك فنحن بدورنا لا ننكر لتوماس ميلو دوره في خدمة الحرف العربي وفي الإبتكار والكشف عن إمكانيات طباعية مهمة. وسأحاول أن أناقش الفكرة التي اقترحها ضمن إطار عام لما يمكن أن يكون عليه التصميم الطباعي الحديث للخط العربي.
متعة العمل التصميمي بالإبداع والإيتاء بما هو جديد. والفكرة الجديدة تستهويني وتطربني ولا أرتاح حتى أختبر صلاحيتها للتنفيذ وقدرتها على توليد الثروة لي. ولكني أكتشفت بعد العديد من تجارب التحليق في عالم الإبداع أن تحويل الفكرة الإبداعية الى منتوج مفيد ذو قيمة تسويقية تحتاج الى الكثير من الجهد والعمل الدؤوب ولعل الأمر – كما نقلنا سابقاً عن أحد المبدعين – هو 1% إلهام و99% آلام، آلام الجهد والدراسة والبحث والتجربة والتعامل مع الآخرين والسوق ومئات من الإعتبارات الأخرى دون مبالغة.
وفي السنين الأخيرة من دراستي الجامعية أستهواني الجانب النظري من العمل التصميمي. وصرت أبحث لعدد من السنين بعد التخرج في الموضوع في محاولة أن أحدد لنفسي منهج واضح وفعّال في التصميم. وكان من بين ما حاولت عمله هو ابتكار لغة برمجة لوصف ومعالجة مسار العمل التصميمي.
في بداياتي التصميمية كنت أعتقد أنه يمكن تحديد مسار أمثل للتصميم أستطيع به تحويل المسألة التصميمية الى حل في مسار محدد ومعروف. وعلمت فيما أنه مع صعوبة تحديد هذا المسار فإن الحل الأسهل هو المباشرة بالتصميم دون شروط مسبقة واكتشاف الطريقة من خلال المباشرة المجردة. ومع ذلك تعلمت استعمال بعض الأدوات التنظيمية والإبداعية المفيدة.
مراحل التصميم
ومن خلال تجربتي في المجالات التصميمية أستطيع القول بأنه بالرغم من كل المناهج المتعددة هناك طابع عام مشترك لمسار العمل التصميمي يمكن تحديده في ثلاثة مراحل.
وهذه المراحل لا تنفصل بشكل قطعي كما هو مبين في الدوائر الثلاث الخارجية في المخطط. وهي في الواقع تتداخل في بعض ملامحها فالمصمم يميل الى المباشرة في التصميم أثناء فترة البحث والدراسة لتجربة بعض الأفكار كما هو أيضاً يرجع الى البحث والدراسة أثناء التصميم عند شعوره بوجود فجوة معلوماتية معينة. ولذا نرى الحلقات الدورانية الصغيرة وهي تمثل التداخل المذكور وتم تمثيل المراحل بشكل مصغر ومتكرر لكونها ثانوية لأعمال المرحلة التي يكون المصمم فيها.
تحقيق النتائج
لا بد لكل عمل نقوم به من غاية. وتحديد الغايات والنتائج النهائية للعمل التصميمي منذ البداية مهم لتحقيق أعمال مؤثرة. ويتم تحديد الغايات ضمن تدرج يترابط منطقياً في كافة مستوياته. بمعنى أننا نقوم بتحديد الغايات الرئيسية التي يتم الإتفاق عليها من قبل كافة الأطراف المتشاركة ومن ثم نفصل لكل غاية من هذه الغايات مخرجات محددة. كما يجب تحديد مؤشر قابل للقياس نستطيع بواسطته تقييم النتائج للتحقق من إنجازها بشكل يرضي أغلب الأطراف المتشاركة في التصميم.
الملخص
تلخيصاً لكل هذا أستطيع القول أنه من المفيد الإطلاع على الأدوات التصميمية “الناعمة” إن صح التعبير والتي تعين على تخطيط العمل التصميمي. وهناك مجموعة أخرى من الأدوات التي تعين على الإبتكار وتحفز الإبداع والتي قد يتسنى لنا استعراض مداخلها في حلقة قادمة بإذن الله.
كما أحب أن أشارك بهذا المنشور الذي جمع صاحبه عدداً من مناهج وطرق التصميم التي من المناسب الإطلاع عليها.
وفي النهاية أحب أن أنشر على المدونة بعض المسودات القديمة التي حاولت من خلالها جمع أدوات مفيدة للتصميم.